اختطاف لبنان
في ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي كان يطلق على لبنان تسمية «سويسرا الشرق»، التي تحمل معاني اقتصادية وسياسية وثقافية، فلبنان في ذلك الوقت كان قبلة المستثمرين، لما يتوفر فيه خدمات مالية وتجارية راقية، كما أنه -مثل سويسرا- نأى بنفسه عن الكثير من مشاكل الشرق الأوسط وبقي دولة شبه محايدة، فيما استقطب نشاطات ثقافية ليصبح أهم مركز عربي لطباعة الكتب والدوريات.
وفي منتصف السبعينيات اشتعلت الحرب الأهلية في لبنان لتأكل قدراته وتشتت شعبه المتعلم في كل جهات الأرض، لكن رجلاً عصامياً وصاحب أعمال ناجح، كرئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، استغل «اتفاق الطائف» بين الأطراف اللبنانية برعاية السعودية ليقود حملة بناء وتنمية غير عادية وضعت لبنان مجدداً على طريق النمو، وتحمل هو شخصياً ابتعاث آلاف اللبنانيين للدراسة على نفقته الخاصة، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية، مما دعم فئة المتعلمين والمهنيين في لبنان.
تلك العودة الاقتصادية والتنموية السريعة لم تعجب الدولة الأولى الراعية للإرهاب في المنطقة، أي إيران وعميلها المسمى «حزب الله»، فاغتالوا الحريري الذي علّم أبناء اللبنانيين وفتح لهم طريق الخير، بغية اختطاف الدولة كما هو الوضع الآن، وتجييرها لخدمة طموحات إيران التوسعية بطابعها المذهبي، فزعيم الحزب، «نصرالله» يفتخر دون خجل، وبالصوت والصورة، بأنه «جندي في نظام ولاية الفقيه»، أي ينفذ كل ما يطلبه منه المرشد، حتى ولو كان ضد وطنه، وهو ما يفسر عمليات التخريب الاقتصادي والسياحي التي يقوم بها الحزب، والتي أدت إلى هروب المستثمرين ورؤوس الأموال.
ومع ذلك استمرت كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ومملكة البحرين ودولة الكويت في تقديم أشكال الدعم الاقتصادي والمالي كافة للبنان، واستقبلت مئات الآلاف من اللبنانيين للعمل وكسب الرزق، ومن الطوائف اللبنانية كافة. وفي الوقت الحاضر هناك 550 ألف لبناني يعملون في دول الخليج، يقومون بتحويل مبالغ كبيرة سنوياً، كما أن 75% من صادرات لبنان الزراعية وأكثر من نصف صادراته الصناعية تتجه إلى دول الخليج العربية.
وفي الوقت نفسه قدمت السعودية والإمارات والكويت دعماً مالياً كبيراً تمثل في ضمانات مالية وودائع لدى مصرف لبنان المركزي لمنع انهيار الليرة اللبنانية. ففي السبعينيات كان سعر الدولار ثلاثة ليرات تقريباً، لكنه انهار إلى 1500 ليرة للدولار، حيث كان بالإمكان أن تتحول إلى نسخة من التومان الإيراني، لولا الدعم المالي الخليجي للبنان.
لكن ماذا قدمت إيران للبنان؟ أولاً لا عمالة لبنانية في إيران، فالبطالة في إيران تبلغ 30%، كما أنه لا صادرت لبنانية ذات قيمة لإيران، في حين أغرق نظام ولاية الفقيه لبنان بالأسلحة والصواريخ ليتقاتل بها اللبنانيون فيما بينهم ضمن برنامج إيران لتدمير المجتمعات العربية عن طريق عملائها في لبنان واليمن والعراق وسوريا والخليج العربي. وهنا يُطرح تساؤل مهم: لماذا لا يبعث «حزب الله» أنصاره للعمل في إيران؟ لماذا يرسلهم للعمل في دول الخليج العربية؟ هذا مع أن الجميع حول العالم، بمن فيهم أنصار إيران، يعلمون أن نظام ولاية الفقيه حوّل إيران إلى دولة فاشلة يسودها الفساد والبطالة.
ومثلما ساهمت إيران في تدمير بعض البلدان العربية، فإنها تحاول الآن تدمير لبنان الذي يشهد استقراراً نسبياً رغم الاضطرابات في بعض بلدان المنطقة، لا سيما في سوريا، وذلك من خلال استفزاز السعودية، إما بتوجيه صواريخ الحوثي الإيرانية الصنع والمهربة، أو بتوجيه تهديدات للموانئ في البلدان الخليجية بدعم من «حزب الله» اللبناني.
ومع ذلك اتبعت دول الخليج على مدى ثلاثين عاماً سياسة النفَس الطويل، على أمل أن يضع «حزب الله» مصلحة لبنان فوق أي اعتبارات أخرى، إلا أن ذلك يبدو أمراً بعيد المنال في ظل اختطاف الدولة اللبنانية وتحويلها إلى نظام مليشياوي تسوده الفوضى، مع ما قد يترتب على ذلك من انهيار اقتصادي متوقع.